صناعة الساعات

    يُنسب الفضل في صناعة أول ساعة صغيرة، إلى بيتر هينلاين، صانع الأقفال الألماني، الذي اخترع، في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، نابضاً رئيسياً، لتزويد الساعة بالقدرة؛ بعد أن كانت الساعات تُدار بوساطة الأوزان المتدلية، ولا بدّ لها أن تبقى ثابتة، في الوضع الرأسي، تيسيراً لعمل أوزانها. ولقد مكنت النوابض صانعي الساعات، من إنتاج ساعات صغيرة متنقلة، سرعان ما انتشرت صناعتها، في إنجلترا وفرنسا وسويسرا.
       كانت الساعات الأولى ثقيلة، وغير دقيقة؛ حتى إنها كانت تُعلَّق حول الرقبة، أو تدلَّى من الحزام. وكانت الساعات الأولى ذات ذراع (عقرب) واحد فقط، وعلبتها كروية، أو أسطوانية. وفي أواسط القرن السابع عشر الميلادي، انتشرت أشكال غير عادية للساعات.
       وفي أواخر القرن السابع عشر الميلادي، زُوِّد العديد من الساعات بعقارب الدقائق. أما عقارب الثواني، فلم تشعْ إلا في القرن العشرين. وطُوِّرت آليات نابض التوازن، وعتلة إدارة الانفلات، في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.
       وأصبحت الساعات، في أواخر القرن السابع عشر الميلادي، صغيرة، وخفيفة، فأمست توضع داخل جيب المعطف أو الصدرية. وكانت ساعات الجيب الأكثر انتشاراً، على مدى أكثر من 200 عام. وشاعت ساعات اليد، في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي؛ غير أنها اقتصرت، قرنئذٍ، على النساء فقط، بيد أن الجنود، أثناء الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، تبيّنوا أن ساعات اليد أكثر ملاءمة من ساعات الجيب، وشرعوا يستخدمونها؛ فأصبحت للرجال والنساء، على حدٍّ سواء.
       أما الساعة الكهربائية المقارنة، التي تزوَّد بالقدرة من طريق بطارية صغيرة جداً، فلم تستعمَل إلا في خمسينيات القرن العشرين. واعتمدت هذه الساعات، في بداية الأمر، عجلة توازن، كأساس للوقت، ولكنها احتوت، فيما بعد، على شوكة ضبط مهتزة عملت كأساس للوقت بالطريقة نفسها تقريباً، التي تعمل بها بلورات الكوارتز في الساعة الإلكترونية. وظهر، في بداية العقد الثامن من القرن العشرين، ساعات الكوارتز؛ ونظراً إلى دقتها، فإنها سرعان ما حلت محل الساعات الكهربائية المبكرة، بل ألغتها تمامًا.
تطور صناعة الساعات
في عام 1675 صنع كريستيان هيوجينز أول ساعة يد ذات ’’نابض شعري،‘‘ أو نابض التوازن الحلزوني. النابض الشعري هذا صنع من شريط فولاذي صغير ملفوف بشكل حلزوني. طرف النابض الداخلي مثبت بقائم صغير فيما الطرف الخارجي بقرص مثبت بدوره بمحور الحركة. الوظيفة الأساسية للنابض الشعري هي في جوهرها تماثل وظيفة الجاذبية الأرضية في تحريك النواس. فحين يتحرك الميزان للخارج دوراناً حول محوره يقوم بربط النابض ليشحنه بالطاقة الحركية. وفي المقابل يفِكّ النابض نفسه ويعيد تطبيق هذه الطاقة على الميزان.
في بيئة فيزيائية نظرية مثالية حرة من أي قوة احتكاك، سواء الاحتكاك الداخلي للنابض أو الاحتكاك الضئيل مع الهواء، يفترض أن ينوس الميزان للمسافة نفسها بين أول شوط النوبة وآخره إلى اللانهاية. لكن بفعل التخامد في حركته بسبب الاحتكاك في الظروف الفيزيائية العملية، فإن الطاقة التراكمية في النابض تضعف. وهنا يأتي دور الطاقة المتراكمة بفعل النابض والمنقولة إلى الميزان عبر شد وانفلات الدولاب لاستدامة سرعة النوسات.
تقليدياً، كان أساتذة صناعة الساعات في أوروبا لا يستخدمون سوى الفولاذ المقسى لصناعة دولاب الساعة المسنن. وكان سطح الدولاب الخارجي يُخرط ويصقل بدقة لضمان النوعية والدقة. فالشكل الدقيق يضمن أدنى معدلات فقدان الحركة بين الدولاب ومطرقة الساعة.
انتشار ساعات اليد مع الوقت أخذت الساعات تصبح أكثر شعبية، وخصوصاً في أوساط الطبقات الأعلى، حيث أصبحت جزء أساسياً من الكماليات الشخصية لأولئك القادرين على شرائها. وكخطوة طبيعية أصبحت الساعات تزين بالأحجار الثمينة وتحولت إلى حلي. وقد جرت العادة أن تكون الساعات المرصعة ذات سماكة خارجية موحدة وعلى محيطها تحفر ثقوب صغيرة. هذه الثقوب هي التي تحمل الأحجار الثمينة التي تثبت على الساعة.
وهذه عملية في غاية الدقة حيث يتعامل الصانع مع ثقوب لا يزيد قطرها عن عشر المليمتر.
عام 1780 جرى تسجيل براءة أول ساعة جيب ذاتية الربط رسمياً في لندن. وبعد قرن ونصف تقريباً، 1924 سجل بريطانيا براءة اختراع أخرى في صنعة الساعات. وكانت تلك ساعة اليد ذاتية الربط، والتي تضمنت ثقلاً يتأرجح دوراناً حول محور الدوران. وهذا الثقل مثبت بمحور الأسطوانة بوساطة دواليب ومسننات إرجاع الحركة. وشهدت التطورات الأخرى على هذه الآلية إدخال ثقل يدور بالكامل في أي من الاتجاهين دورات كاملة بدلً من التأرجح.
كان ازدياد عمر الساعات وسهولة تشغيلها دافعاً لمزيد من الاهتمام بإنتاج الساعات. فالناس أصبحت بحاجة لساعات أكثر اعتمادية ودقة وازدادت بحوث الساعات. في عام 1906 اخترعت ساعة الحائط التي تعمل بالبطارية. وبعد حوالي 12 عاماً، 1918، أدخل المحرك الكهربائي التواقتي في ساعات الحائط، وهو ما أفسح مكاناً دائماً لها كقطعة كمالية لا غنى عنها في البيوت.
وشهد عام 1929 قفزة كبيرة نحو الدقة البالغة حين استخدم الكوارتز في إنتاج الساعات. فبلورة الكوارتز التي تنوس بترددات تصل 100،000 هرتز، يمكن قياسها وتحديد فروق التردد إلى حد من الدقة يبلغ 1 من 10×10. وهذا سمح بتحقيق مستوى هائل من الدقة.
اليوم يمثل التيار الكهربائي القوة المحركة المفضلة لتشغيل الساعات مثلما هو حال أي جهاز يمكنه توظيف هذه القوة. وتستخدم بطاريات صغيرة لتشغيل الساعات الكهربائية. أحد هذه المحركات يقوم فيه مغناطيس كهربائي بجذب ميزان مغناطيسي نحوه. القوة المحركة الأخرى الشائعة هي القوة الغلفانية، وهي مكونة أساساً من ميزان ونابض شعري متأرجح تحركه القوة الجاذبة بين وشيعة نحاسية ومغناطيس. لكن هناك أيضاً ساعات تعمل بما تسمى طاقة الرنين. وهذا النمط من الطاقة يوظف شوكة رنانة كهربائية صغيرة جداً لتوفر القوة المحركة للساعة. وهذه الآلية بالتحديد، هي التي يمكن للمرء أن يدعوها الساعة الإلكترونية. وهي أكثر الساعات دقة من بين التي ذكرناها حتى الآن باعتبارها تعمل بترددات عالية جداً من تلك الموجودة في ساعات اليد التي تعمل بالميزان.
فبالاعتماد على الترانزستور بدلاً من الاتصال الميكانيكي، لا تعاني الساعة الإلكترونية من أي احتكاك مما يضمن أعلى درجات الدقة. كما أن مثل هذه الساعات لا تعاني من أي تباطؤ في آلية الدفع، لأن البطارية حين تفرغ تتوقف الساعة عن العمل.
وفيما دخلنا عصر الخيال العلمي الواقعي وأصبحنا نواجه يومياً عدداً لا يحصى من الأجهزة الإلكترونية والكمبيوترية شبه الذكية، تزخر الأسواق اليوم بساعات من كل الأشكال وبشتى المزايا والإمكانيات. الكثير من هذه الساعات تعرض الوقت بصيغة رقمية.، بل إن بعضها قد يخبرك به كلاماً إن طلبت. هناك ساعات لا تزال تدرج ضمن خانة المجوهرات، وأخرى تتضمن هاتفاً أو كاميرا رقمية أو كل هذه. لكن بغض النظر عن القدر الذي تغير به الشكل أو زادت به الاستخدامات الأخرى، لا تزال الساعات تصنع نتيجة تلك الحاجة التاريخية نفسها، أن تحدد الوقت.
 
ساعة جيب قديمة